كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال فِي اللِّسَانِ: فَأَمَّا الْخَالِفَةُ فَهُوَ الَّذِي لَا غِنَاءَ عِنْدَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْخَالِفُ وَقِيلَ: هُوَ الْكَثِيرُ الْخِلَافِ ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَثِيرِ: وَقَدْ يَكُونُ الْخَالِفُ الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الْقَوْمِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ كَقوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ (87)}. اهـ. وَيُرَادُ بِالْخَوَالِفِ الصِّبْيَانُ وَالْعَجَزَةُ وَالنِّسَاءُ، الَّذِينَ لَا يُكَلَّفُونَ الْقِيَامَ بِشَرَفِ الْجِهَادِ، لِلدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالطَّبَرِيِّ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَالْمَرَّةُ فِي قوله تعالى: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} قَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي كَلَامِهِمْ ظَرْفًا، وَأَصْلُهَا الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَرِّ وَالْمُرُورِ.
قال فِي الْقَامُوسِ: الْمَرَّةُ الْفَعْلَةُ الْوَاحِدَةُ جَمْعُهَا مَرٌّ وَمِرَارٌ وَمِرَرٌ بِكَسْرِهَا وَمُرُورٌ بِالضَّمِّ.
وَلَقِيَهُ ذَاتَ مَرَّةٍ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا ظَرْفًا، وذَاتَ الْمِرَارَةِ أَيْ: مِرَارًا كَثِيرَةً. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} هَذَا بَيَانُ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَنْ يَمُوتُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِثْرِ مَا شَرَعَهُ فِي شَأْنِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ، وَهُوَ كَسَابِقِهِ خَاصٌّ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتَتْ أَدِلَّةُ كُفْرِهِمْ أَوْ إِعْلَامِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ زَعِيمُهُمُ الْأَكْبَرُ الْأَكْفَرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ وَالِاثْنَى عَشَرَ الَّذِينَ أَرَادُوا اغْتِيَالَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أَيْ: لَا تُصَلِّ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ الْآنَ عَلَى أَحَدٍ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَرَّفْنَاكَ شَأْنَهُمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ أَبَدًا مَا حَيِيتَ- وَلَا تَقِفْ عَلَى قَبْرِهِ عِنْدَ الدَّفْنِ لِلدُّعَاءِ لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، كَمَا تَقُومُ عَلَى قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ دَفْنِهِمْ، وَيَلْزَمُ هَذَا النَّهْيَ عَدَمُ تَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا نَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ السُّنَّةِ فِي مَعْنَى الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ غَيْرَهُ، فَانْتِظَارُ الدَّفْنِ أَعَمُّ مِنْهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ بَعْضُهُمْ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ لَا بِلَفْظِ الْقِيَامِ.
وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى هَذَا النَّهْيَ بِبَيَانٍ مُسْتَأْنَفٍ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، أَيْ: وَهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمِ السَّابِقِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِهِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ (وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ مَضْمُونِهَا قَبْلَ حُدُوثِ الْعَامِلِ فِيهَا) وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلاسيما إِذَا أُكِّدَ بِكَلِمَةِ أَبَدًا الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ: وَمَاتُوا وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْقَاعِدَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي أَنْ يَكُونَ لِتَأْكِيدِهِ وَتَحَقُّقِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، أَيْ: وَسَيَمُوتُونَ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ صَلَاتُهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَاتَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَسَيَمُوتُ الْآخَرُونَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ بَحْثٌ نُبَيِّنُهُ بَعْدَ إِجْمَالِ الْكَلَامِ عَلَى قوله: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} قَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا بِنَصِّهِ وَهُوَ الْآيَةُ 55 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَلَا أَوْلَادُهُمْ وَتَفْسِيرُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَةَ لَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ عَلَى حِدَتِهِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِمَنْ كَانَ لَهُ إِحْدَى الزِّينَتَيْنِ، وَالنَّهْيُ فِي هَذِهِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِهِمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ، وَهُوَ أَدْعَى إِلَى الْإِعْجَابِ، وَأُعِيدَ هَذَا النَّهْيُ هُنَا؛ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ لَهُ كَاقْتِضَائِهِ هُنَاكَ التَّأْثِيرَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ التَّالِي وَالسَّامِعِ؛ وَلِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ غَيْرِ الطَّائِفَةِ الَّتِي جَاءَتْ فِي السِّيَاقِ الْأَوَّلِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَقَفَ قُلْتُ: أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا، وَالْقَائِلِ كَذَا وَكَذَا- أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ- وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ- حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ قَالَ: «يَا عُمَرُ أَخِّرْ عَنِّي إِنِّي قَدْ خُيِّرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (80) فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَشَى مَعَهُ حَتَّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ فَعَجِبْتُ لِي وَلِجَرَاءَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَوَاللهِ مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُنَافِقٍ بَعْدَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (80) وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ» قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ.
قال: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (84) زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ كَانَ يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ- وَفِي رِوَايَةٍ جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ- فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. اهـ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فَنَقْتَصِرُ عَلَى هَذَا الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا اسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُ. وَمَا أَجَابُوا بِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ وُرُودَ هَذَا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهَا مِمَّا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَهِيَ لَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ حَدِيثُ مُعَارَضَةِ عَمَرَ بِطَرِيقَيْهِ مُشْكِلٌ وَمُضْطَرِبٌ مِنْ وُجُوهٍ:
(1) جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى ابْنِ أَبَيٍّ سَبَبًا لِنُزُولِ آيَةِ النَّهْيِ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَفَرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَإِنَّمَا مَاتَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا.
(2) قَوْلُ عُمَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ سَابِقٌ لِمَوْتِ ابْنِ أُبَيٍّ- وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} إِلَخْ. صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
(3) قَوْلُهُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَيَّرَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَدَمِهِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ التَّخْيِيرُ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بَقِيَّتُهَا، أَيْ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ (أَوْ) فِيهَا أَنَّهُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا بَعْدَهَا وَمَا قَبْلَهَا لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَبِهِ فَسَرَّهَا الْمُحَقِّقُونَ كَمَا فَهِمَهَا عُمَرُ، وَاسْتَشْكَلُوا الْحَدِيثَ إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ فَهْمُ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَصَحَّ مِنْ فَهْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِخِطَابِ اللهِ لَهُ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ صِحَّتَهُ.
(4) التَّعَارُضُ بَيْنَ رِوَايَةِ «فَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّنِي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» وَرِوَايَةِ «وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ».
(5) التَّعَارُضُ بَيْنَ إِعْطَائِهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ لِابْنِهِ لِتَكْفِينِهِ فِيهِ وَحَدِيثِ جَابِرٍ إِخْرَاجُهُ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ أُبَيٍّ مِنْ قَبْرِهِ وَإِلْبَاسُهُ قَمِيصَهُ.
(6) إِذَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ قَبْلَ نُزُولِ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ آيَةِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (63: 6) وَآية: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ} (80) وَالْجَزْمُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ.
وَقَدْ لَخَّصَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا وَرَدَ وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ إِشْكَالٍ وَجَوَابٍ بِمَا هُوَ أَجْمَعُ مِمَّا قَالَهُ مَنْ قَبْلَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِمَّنِ اطَّلَعْنَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَهُوَ مَا كَتَبَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابُ قَوْلِهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وَهَذَا نَصُّهُ:
ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، لَكِنْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ.
قال الْوَاقِدِيُّ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ سِرًّا فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ» رَهْطٍ ذَوِي عَدَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
قال: فَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ اسْتَتْبَعَ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ مَشَى مَعَهُ وَإِلَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ قَرِيبًا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِصَاصِ الْمَذْكُورِينَ بِذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ فَإِنَّهُمْ تَابُوا. ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ» أَوْ «أَخْبَرَنِي اللهُ» كَذَا وَقَعَ بِالشَّكِّ. وَالْأَوَّلُ بِمُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَحْتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ مِنَ التَّخْيِيرِ وَالثَّانِي بِمُوَحَّدَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِ «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ» بِغَيْرِ شَكٍّ، وَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، أَيْ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَعَدَمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتُشْكِلَ فَهْمُ التَّخْيِيرِ مِنَ الْآيَةِ حَتَّى أَقْدَمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ وَسَائِرِ الَّذِينَ خَرَّجُوا الصَّحِيحَ عَلَى تَصْحِيحِهِ، وَذَلِكَ يُنَادِي عَلَى مُنْكِرِي صِحَّتِهِ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى طُرُقِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: مَفْهُومُ الْآيَةِ زَلَّتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ، حَتَّى أَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ. اهـ.
وَلَفْظُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي التَّقْرِيبِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي مُخْتَصَرِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُخَرَّجٍ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ فِي الْبُرْهَانِ: لَا يُصَحِّحُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَالسَّبَبُ فِي إِنْكَارِهِمْ صِحَّتَهُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ حَمْلٍ (أَوْ) عَلَى التَّسْوِيَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ، وَحَمْلُ السَّبْعِينَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
قال ابْنُ الْمُنِيرِ: لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ تَرَدُّدٌ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ فِي هَذَا السِّيَاقِ غَيْرُ مُرَادٍ انْتَهَى، وَأَيْضًا فَشَرْطُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَكَذَا الْعَدَدِ عِنْدَهُمْ مُمَاثَلَةُ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ، وَعَدَمُ فَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهُنَا لِلْمُبَالَغَةِ فَائِدَةٌ وَاضِحَةٌ. فَأَشْكَلَ قَوْلُهُ: «سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» مَعَ أَنَّ حُكْمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا حُكْمُهَا.
وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: «سَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» اسْتِمَالَةً لِقُلُوبِ عَشِيرَتِهِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ إِنْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرَدُّدُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ لَزِدْتُ لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّوَايَةَ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ: «سَأَزِيدُ» وَوَعْدُهُ صَادِقٌ، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُ: «لِأَزِيدَنَّ» الْمُبَالَغَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِصِيغَتِهِ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ مَجِيءِ الْآيَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَوَازِ وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ فَهْمِ الْمُبَالِغَةِ لَا يَتَنَافَيَانِ، فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ تَحْصُلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الدُّعَاءِ، وَالْعَبْدُ إِذَا سَأَلَ رَبَّهُ حَاجَةً فَسُؤَالُهُ إِيَّاهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الذِّكْرِ، لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ تَعْجِيلِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ لَيْسَ عِبَادَةً، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْمَغْفِرَةُ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ، وَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِعَدَمِ نَفْعِهَا لَا يُغَيِّرُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ طَلَبُهَا لَا لِغَرَضِ حُصُولِهَا بَلْ لِتَعْظِيمِ الْمَدْعُوِّ، فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْمَغْفِرَةُ عُوِّضَ الدَّاعِي عَنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ دَفْعِ السُّوءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَنِ الْمَدْعُوِّ لَهُمْ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي قِصَّةٍ أَبِي طَالِبٍ.
هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَسْتَحِيلُ الْمَغْفِرَةُ لَهُ شَرْعًا، وَقَدْ وَرَدَ إِنْكَارُ ذَلِكَ فِي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (113).